تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وفي الوتر ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)(١).

وقرأ (الأعلى) ، (فسوى) ، (المرعى) ، (أحوى) ، (فلا تنسى) ، (وما يخفى) ، (من يخشى) ، (الأشقى) ، (ولا يحيى) ، (من تزكى) ، (فصلى) ، (الدنيا) ، (وأبقى) ، (الأولى) ، (وموسى) حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش وأبو عمرو بين بين ، والفتح عن ورش قليل ، أمّا (الأعلى الذي) ، و (الأشقى الذي) إذا وقف عليهما فالإمالة ، وإن وصلا فلا إمالة والباقون بالفتح. وقرأ : (الذكرى) ، (الكبرى) ، أبو عمرو والكسائي بالإمالة محضة. وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله تعالى على إبراهيم وموسى ومحمد عليهم‌السلام» (٢). حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ٢٤٤.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٤٣.

٦٠١

سورة الغاشية

مكية بالإجماع ، وهي ست وعشرون آية واثنان وتسعون كلمة وثلاثمائة وإحدى وثمانون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) علام الغيوب (الرَّحْمنِ) كاشف الكروب (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بالعفو عن الذنوب.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

وقوله سبحانه وتعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) فيه وجهان : أحدهما : أنّ هل بمعنى قد ، أي : قد جاءك يا أشرف الخلق حديث الغاشية ، كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [الإنسان : ١]. قال قطرب : والثاني : أنه استفهام على حاله ، وتسميه أهل البيان التشويق ، والمعنى : إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك وهو معنى قول الكلبي ، والغاشية : الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها وهي القيامة من قوله : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) [العنكبوت : ٥٥] وقيل : هي النار من قوله تعالى : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم : ٥٠](وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١]. وقيل : المراد النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى الخلق. وقيل : الغاشية أهل النار يغشونها ويقتحمون فيها.

(وُجُوهٌ ،) أي : كثيرة جدّا كائنة (يَوْمَئِذٍ ،) أي : يوم إذ غشيت (خاشِعَةٌ ،) أي : ذليلة من الخجل والفضيحة والخوف من العذاب ، والمراد بالوجوه في الموضعين : أصحابها.

(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ،) أي : ذات نصب وتعب. قال سعيد بن جبير عن قتادة : تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى فأعملها الله تعالى وأنصبها في النار بجرّ السلاسل الثقال وحمل الأغلال ،

٦٠٢

والوقوف حفاة عراة في العرصات في يوم كان مقداره ألف سنة. وقال ابن مسعود : تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل. وقال الحسن : لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال ابن عباس : هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى على الكفر ، مثل عبدة الأوثان والرهبان وغيرهم لا يقبل الله تعالى منهم إلا ما كان خالصا له. وعن علي أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١) الحديث.

وقرأ (تَصْلى) أبو عمرو وشعبة بضم التاء الفوقية على ما لم يسم فاعله ، والباقون بفتحها على تسمية الفاعل ، والضمير على كلتا القراءتين للوجوه. والمعنى : تدخل (ناراً حامِيَةً ،) أي : شديدة الحرّ قد أحميت وأوقدت مدّة طويلة ، ومنه حمي النّهار بالكسر ، أي : اشتدّ حرّه. وحكى الكسائي اشتدّ حمى الشمس وحموها بمعنى. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسوّدت فهي سوداء مظلمة» (٢). وقيل : المصلى عند العرب أن يحفروا حفيرا فيجمعون فيه جمرا كثيرا ، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه ، فأمّا ما شوي فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور فلا يسمى مصليا.

ولما بين تعالى مكانهم ذكر شرابهم فقال تعالى : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ،) أي : شديدة الحرارة كقوله تعالى : (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤] متناه في الحرارة. روي أنه لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لأذابتها.

ولما ذكر تعالى شرابهم أتبعه بذكر طعامهم فقال تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) قال مجاهد : هو نبت ذو شوك لاطىء بالأرض تسميه قريش الشبرق ، فإذا هاج سموه الضريع ، وهو أخبث طعام وأبشعه. قال الكلبي : لا تقربه دابة إذا يبس. وقال ابن زيد : أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق ، وهو في الآخرة شوك من نار. وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه : «الضريع شيء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة ، وأشد حرّا من النار» (٣) قال أبو الدرداء والحسن : «إنّ الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة ، ثم يسقون من عين آنية لا هنيئة ولا مريئة ، فلما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وشواها فإذا وصل بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ١٥]. قال بعض المفسرين : فلما نزلت هذه الآية قال المشركون : إنّ إبلنا لتسمن على الضريع ، وكذبوا في ذلك فإنّ الإبل إنما ترعاه ما دام رطبا ويسمى شبرقا فإذا يبس لا يأكله شيء. قال أبو ذؤيب يصف حمارا (٤) :

رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى

وصار ضريعا بان عنه النحائص

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦١٦٣ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٦٤ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٦٤ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٦٩.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٣) أخرجه القرطبي في تفسيره ٢٠ / ٣٠.

(٤) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٠٣

والنحوص : من الأتن التي لا لبن لها.

ولما قالوا ذلك أنزل الله تعالى تكذيبا لهم : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي ،) أي : يكفي كفاية مبتدأة (مِنْ جُوعٍ) فلا يحفظ الصحة ولا يمنع الهزال فنفى السمن والشبع عنه ، وعلى تقدير أن يصدقوا فيكون المعنى : أنّ طعامكم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع. فإن قيل : كيف قيل : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وفي الحاقة : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٦]؟ أجيب : بأنّ العذاب ألوان والمعذبون طبقات ، فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم.

ولما ذكر تعالى وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين فقال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ،) أي : يوم تغشى الناس ووصفها بصفات الأولى قوله تعالى : (ناعِمَةٌ ،) أي : ذات بهجة وحسن كقوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] أو متنعمة. قال مقاتل : في نعمة وكرامة. الصفة الثانية : قوله تعالى : (لِسَعْيِها ،) أي : في الدنيا بالأعمال الصالحة (راضِيَةٌ ،) أي : في الآخرة بثواب سعيها حين رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة.

الصفة الثالثة قوله تعالى : (فِي جَنَّةٍ) ثم وصف الجنة بصفات الأولى قوله تعالى : (عالِيَةٍ ،) أي : علية المحل والقدر ، والصفة الثانية : قوله تعالى : لا يسمع فيها لاغية قرأ بالتاء الفوقية نافع مضمومة لاغية بالرفع ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية مضمومة لاغية بالرفع لقيامها مقام الفاعل ، والباقون بالتاء الفوقية مفتوحة لاغية بالنصب فيجوز أن تكون التاء للخطاب ، أي : لا تسمع أنت وأن تكون للتأنيث ، أي : لا تسمع الوجوه ، واللغو وقال ابن عباس : الكذب والبهتان والكفر بالله تعالى. وقال قتادة : لا باطل ولا إثم. وقال الحسن : هو الشتم. وقال الفراء : الحلف الكاذب ، والأولى كما قيل : لا يسمع في كلامهم كلمة ذات لغو ، وإنما يتكلمون بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم وهذا أحسن الأقوال قاله القفال. وقال الكلبي : لا يسمع في الجنة حالف بيمين لا برّة ولا فاجرة.

الصفة الثالثة : قوله تعالى : (فِيها ،) أي : الجنة (عَيْنٌ جارِيَةٌ) قال الزمخشري : يريد عيونا في غاية الكثرة كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [التكوير : ١٤] وقال القفال : فيها عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود ، وتجري لهم كما أرادوا.

الصفة الرابعة : قوله تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ،) أي : عالية في الهواء. قال ابن عباس : ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء ما لم يجىء أهلها ، فإذا أرادوا أن يجلسوا عليها تواضعت ثم ترتفع إلى مواضعها.

الصفة الخامسة : قوله تعالى : (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) جمع كوب ، وهي الكيزان التي لا عرى لها. قال قتادة : فهي دون الإبريق.

وفي قوله تعالى : (مَوْضُوعَةٌ) وجوه أحدها : أنها معدّة لأهلها كالرجل يلتمس من الرجل شيئا فيقول هو ههنا موضوع بمعنى معدّ. ثانيها : موضوعة على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة من الشراب. ثالثها : موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب أو فضة أو من جواهر وتلذذهم بالشرب فيها. رابعها : أن يكون المراد موضوعة عن حدّ الكبر ، أي : هي أوساط بين الكبر والصغر كقوله (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) [الإنسان : ١٦].

٦٠٤

الصفة السادسة : قوله تعالى : (وَنَمارِقُ) وهي الوسائد ، واحدها : نمرقة بضم النون والراء وكسرهما لغتان أشهرهما الأولى وهي وسادة صغيرة قالت (١) :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

(مَصْفُوفَةٌ) أي : واحدة إلى جنب واحدة أخرى قال الشاعر (٢) :

كهولا وشبانا حسانا وجوههم

لهم سرر مصفوفة ونمارق

الصفة السابعة : قوله تعالى : (وَزَرابِيُ) وهي جمع زربية بفتح الزاي وكسرها لغتان مشهورتان وهي بسط عراض فاخرة. وقال ابن عباس : الطنافس التي لها خمل ، أي : وبر رقيق. واختلف في قوله تعالى : (مَبْثُوثَةٌ) فقال قتادة : مبسوطة. وقال عكرمة : بعضها فوق بعض. وقال الفراء : كثيرة. وقال القتيبي : مفرّقة في المجالس. قال القرطبي : وهذا أصح فهي كثيرة متفرّقة ومنه قوله تعالى : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) [البقرة : ١٦٤].

ولما ذكر تعالى أمر الدارين تعجب الكفار من ذلك فكذبوه وأنكروه فذكرهم الله تعالى صنعه وقدرته بقوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ ،) أي : المنكرون لقدرته سبحانه وتعالى على الجنة ، وما ذكر فيها ، والنار وما ذكر فيها ، أي : نظر اعتبار. (إِلَى الْإِبِلِ) ونبه على أنه عجيب خلقها مما ينبغي أن تتوفر الدعاوى على الاستفهام والسؤال عنه بأداة الاستفهام ، فقال تعالى : (كَيْفَ خُلِقَتْ ،) أي : خلقا عجيبا دالا على كمال قدرته وحسن تدبيره ، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرّها إلى البلاد النائية فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ، ثم تنهض بما حملت وخسرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعارض ضعيفا ولا تنازع صغيرا وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد لا إبل بها فتفكر ، ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق وحين أراد بها أن تكون سفائن البرّ صبرها على احتمال العطش ، حتى أنّ ظماءها لتصبر على عشر فصاعدا ليتأتى لها قطع البراري والمفاوز مع ما لها من منافع أخر ، ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المثبتة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعا ، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع لأنها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا ترعاه سائر البهائم.

وعن سعيد بن جبير قال : لقيت شريحا القاضي فقلت له : أين تريد؟ قال : أريد الكناسة ، قلت : وما تصنع بها؟ قال : أنظر إلى الإبل كيف خلقت.

تنبيه : الإبل اسم جمع واحده بعير وناقة وجمل ولا واحد لها من لفظها. وقال المبرد : الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب. قال الثعلبي : ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمة. وقال الماوردي : وفي الإبل وجهان : أظهرهما : أنها الإبل ، والثاني : أنها السحاب فإن كان المراد بها

__________________

(١) الرجز لهند بنت عتبة في أدب الكاتب ص ٩٠ ، والأغاني ١٢ / ٣٤٣ ، ولها أو لهند بنت بياضة بن رياح (أو رباح) بن طارق الإيادي في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٠٩ ، ولسان الرعب (طرق) ، ولهند بنت بياضة في معجم ما استعجم ص ٧٠ ، ولهند بنت الفند الزماني (سهيل بن شيبان) في الأغاني ٢٣ / ٢٥٤.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٠٥

السحاب فلما فيها من الآيات والدلالات الدالة على قدرته والمنافع العامّة لجميع خلقه ، وإن كان المراد بها الإبل فلأنّ الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوانات لأنّ ضروب الحيوان أربعة حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال الأربع ، فكانت النعمة بها أعم وظهور القدرة فيها أتم وقيل للحسن : الفيل أعظم من الأعجوبة فقال : العرب بعيدة العهد بالفيل ثم هو لا يؤكل لحمه ولا يركب ولا يحلب درّه.

(وَإِلَى السَّماءِ) التي هي من جملة مخلوقاتنا (كَيْفَ رُفِعَتْ ،) أي : رفعا بعيدا بلا إمساك وبغير عمد على ما لها من السعة والكبر والثقل والإحكام ، وما فيها من الكواكب والغرائب والعجائب.

(وَإِلَى الْجِبالِ ،) أي : الشامخة وهي أشد الأرض (كَيْفَ نُصِبَتْ) نصبا ثابتا فهي راسية لا تميل ولا تزول كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) [الأنبياء : ٣١] (وَإِلَى الْأَرْضِ ،) أي : على سعتها (كَيْفَ سُطِحَتْ) سطحا بتمهيد وتوطئة فهي مهاد للتقلب عليها. واستدلّ بعضهم بذلك على أنّ الأرض ليست بكرة. قال الرزاي : وهو ضعيف لأنّ الكرة إذا كانت في غاية العظمة تكون كل قطعة منها كالسطح. فإن قيل : كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ أجيب : بأنّ من فسرها بالسحاب فالمناسبة ظاهرة ، وذلك على طريق التشبيه والمجاز ، ومن فسرها بالإبل فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين :

أحدهما : أنّ القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيرا ويسيرون عليها في أوديتهم وبواديهم مستوحشين ومنفردين عن الناس ، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكر في الأشياء لأنه ليس معه من يحادثه وليس هناك ما يشغل به سمعه وبصره ، فلا بدّ من أن يجعل دأبه التفكر فإذا تفكر في تلك الحال فأوّل ما يقع بصره على البعير الذي هو راكبه فيرى منظرا عجيبا ، وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء وإن نظر يمينا وشمالا لم ير غير الجبال ، وإن نظر إلى تحت لم ير غير الأرض فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر.

ثانيهما : أنّ جميع المخلوقات دالة على الصانع جلت قدرته إلا أنها قسمان منها ما للشهوة فيه حظ كالوجه الحسن والبساتين النزهة والذهب والفضة ، فهذه مع دلالتها على الصانع قد يمنع استسحانها عن كمال النظر فيها ومنها ما لا حظ فيه للشهوة كهذه الأشياء فأمر بالنظر فيها ؛ إذ لا مانع من إكمال النظر فيها. وقال عطاء عن ابن عباس : كأن الله تعالى يقول هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل ، أو يرفع مثل السماء ، أو ينصب مثل الجبال ، أو يسطح مثل الأرض غيري.

ولما بين تعالى الدلائل على صحة التوحيد والمعاد قال سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَذَكِّرْ ،) أي : بنعم الله تعالى ودلائل توحيده وعظهم بذلك وخوّفهم يا أشرف الخلق (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) فلا عليك أن لا ينظروا ولم يذكروا أو ما عليك إلا البلاغ كما قال تعالى : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨].

(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي : بمسلط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان كقوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق : ٥٠] وهذا قبل الأمر بالجهاد. وقرأ هشام بالسين وقرأ حمزة بخلاف عن خلف بإشمام الصاد كالزاي ، والباقون بالصاد الخالصة.

٦٠٦

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) استثناء منقطع ، أي : لكن من تولى عن الإيمان (وَكَفَرَ ،) أي : بالقرآن.

(فَيُعَذِّبُهُ اللهُ ،) أي : الذي له الكمال كله بسبب تكبره عن الحق ومخالفته لأمرك (الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ،) أي : عذاب الآخرة لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر. وقيل : استثناء متصل فإنّ جهاد الكفار وقتلهم تسليط فكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وقيل : هو استثناء من قوله تعالى : (فَذَكِّرْ) إلا من انقطع طمعك من إيمانه ، وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض.

(إِنَّ إِلَيْنا ،) أي : خاصة بما لنا من العظمة (إِيابَهُمْ ،) أي : رجوعهم بعد البعث.

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا ،) أي : خاصة بما لنا من القدرة والتنزه عن نقص العيب والجور وكل نقص لا على غيرنا (حِسابَهُمْ ،) أي : جزاءهم فلا نتركه أبدا ، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه كان يشق عليه تكذيبهم.

فإن قيل : ما معنى تقديم الظرف؟ أجيب : بأنّ معناه التشديد في الوعيد ، وأنّ إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام ، وأنّ حسابهم ليس إلا عليه وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ الغاشية حاسبه الله حسابا يسيرا» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٤٨.

٦٠٧

سورة الفجر

مكية ، وقيل : مدنية وهي تسع وعشرون آية وقيل : ثلاثون آية ومائة وتسع وثلاثون كلمة وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك المعبود (الرَّحْمنِ) الذي عمّ خلقه بالكرم والجود (الرَّحِيمِ) الذي سدّد أهل عنايته بفضله فهو الحليم الودود.

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

وقوله تعالى : (وَالْفَجْرِ ،) أي : فجر كل يوم قسم كما أقسم بالصبح في قوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) [المدثر : ٣٤](وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [التكوير : ١٨] وقال قتادة : هو فجر أوّل يوم من المحرّم تتفجر منه السنة. وقال الضحاك : فجر ذي الحجة ، وقيل : ذلك على مضاف محذوف ، أي : وصلاة الفجر. وقيل : ورب الفجر وتقدّم أنّ الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته.

واختلف في قوله تعالى : (وَلَيالٍ عَشْرٍ) فقال مجاهد وقتادة : هو عشر ذي الحجة. وقال الضحاك : هو العشر الأوّل من رمضان. وعن ابن عباس : أنه العشر الأخير من رمضان. وعن يمان بن رباب هو العشر الأوّل من المحرّم التي عاشرها يوم عاشوراء ، ولصومه فضل عظيم.

فإن قيل : لم ذكر الليالي من بين ما أقسم به؟ أجيب : بأنّ ذلك للتعظيم.

(وَالشَّفْعِ ،) أي : الزوج (وَالْوَتْرِ ،) أي : الفرد ، وقيل : الشفع الخلق كلهم قال الله تعالى : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) [النبأ : ٨] والوتر هو الله تعالى قاله أبو سعيد الخدري. وقال مجاهد ومسروق : الشفع الخلق كله ، قال الله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذاريات : ٤٩] الكفر والإيمان ، والهدى والضلال ، والسعادة والشقاوة ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والبر والبحر ، والشمس والقمر ، والجنّ والإنس ، والوتر هو الله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١]. وقال قتادة : هما الصلوات منها شفع ومنها وتر. روى ذلك عن عمران بن حصين مرفوعا وعن ابن عباس الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب. وقال الحسين بن الفضل : الشفع درجات الجنة لأنها ثمان والوتر دركات النار لأنها سبع دركات. سئل أبو بكر الوراق عن الشفع والوتر فقال :

٦٠٨

الشفع تضاد أوصاف المخلوقين من العز والذل ، والقدرة والعجز ، والقوّة والضعف ، والعلم والجهل ، والبصر والعمى. والوتر انفراد صفات الله سبحانه وتعالى عز بلا ذل ، وقدرة بلا عجز ، وقوّة بلا ضعف ، وعلم بلا جهل ، وحياة بلا موت. وعن عكرمة الوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر ، واختاره النحاس وقال هو الذي صح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيوم عرفة وتر لأنه تاسعها ويوم النحر شفع لأنه عاشرها. وقال ابن الزبير : الشفع الحادي عشر والثاني عشر من أيام منى ، والوتر الثالث عشر. وقال الضحاك : الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى الثلاثة. وقيل : الشفع والوتر آدم عليه‌السلام كان وترا فشفع بزوجته حوّاء ، حكاه القشيريّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقرأ حمزة والكسائيّ بكسر الواو والباقون بفتحها وهما لغتان الفتح لغة قريش ومن والاها والكسر لغة تميم.

وقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قسم خامس بعدما أقسم بالليالي العشر على الخصوص أقسم به على العموم ، ومعنى يسر سار وذهب كما قال الله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) [المدثر : ٣٣]. وقال قتادة : إذا جاء وأقبل وقيل : معنى يسر ، أي : يسري فيه كما يقال : ليل نائم ونهار صائم ، ومنه قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء بعد الراء وصلا لا وقفا ، وأثبتها ابن كثير في الحالين ، وحذفها الباقون في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم وإثباتها هو الأصل لأنها لام فعل مضارع مرفوع ، ومن فرق بين حالتي الوقف والوصل فلأنّ الوقف محل استراحة وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء فقال : الليل لا يسري ولكن يسرى فيه فهو مصروف فلما صرفه تجنبه حظه من الإعراب كقوله تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] ولم يقل بغية ، لأنه صرفه عن باغية وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم والجواب محذوف تقديره : لتعذبن يا كفار مكة بدليل قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) إلى قوله تعالى : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) وما بينهما اعتراض.

وقوله تعالى : (هَلْ فِي ذلِكَ ،) أي : القسم والمقسم به (قَسَمٌ ،) أي : حلف أو محلوف (لِذِي حِجْرٍ) استفهام معناه التقرير ، كقولك : ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت أو المراد منه التأكيد لما أقسم عليه كمن ذكر حجة بالغة ، ثم قال : هل فيما ذكرته حجة والمعنى : إنّ من كان ذا لب علم أنّ ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه ، والحجر العقل لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما يسمى عقلا ونهية لأنه يعقل وينهى وحصاة من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء : يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها.

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن المراد به العموم والمراد بالرؤية العلم ، أي : ألم تعلم يا أشرف رسلنا (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ،) أي : المحسن إليك بأنواع النعم (بِعادٍ) (إِرَمَ) وهو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام ، ثم إنهم جعلوا لفظ عاد اسما للقبيلة كما يقال لبني هاشم : هاشم ، ولبني تميم : تميم ، ثم قيل للأوّلين منهم عاد الأولى ، وإرم تسمية لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة. فإرم في قوله تعالى : (عاد) (إِرَمَ) عطف بيان لعاد وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة وقيل : إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها. وقوله تعالى : (ذاتِ) ، أي : صاحبة (الْعِمادِ) فينظر فيه إن كانت صفة للقبيلة فالمعنى : أنهم كانوا بدويين أهل عمد وطوال الأجسام

٦٠٩

على تشبيه قدودهم بالأعمدة. وقيل : ذات البناء الرفيع وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى : أنها ذات أساطين وروي أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال : أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل.

وقوله تعالى : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) صفة أخرى لإرم فإن كانت للقبيلة فلم تخلق مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة. قال الزمخشري : كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع ، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيقلبها على الحي فيهلكهم. وروي عن مالك أنه كانت تمرّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وإن كانت للبلدة فلم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا ، والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنّ الله تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه ، فلأن تكونوا مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم أولى وقد ذكركم الله تعالى ثلاث قصص هذه القصة الأولى.

وأما الثانية : فهي في قوله تعالى : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا ،) أي : قطعوا (الصَّخْرَ) جمع صخرة وهي الحجر واتخذوها بيوتا كقوله تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [الشعراء : ١٤٩]. (بِالْوادِ ،) أي : وادي القرى ، قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. وقيل : سبعة آلاف مدينة كلها من الحجارة.

تنبيه : أثبت الياء ورش وابن كثير وصلا ، وأثبتها وقفا ابن كثير بخلاف عن قنبل.

وأما القصة الثالثة : فهي في قوله تعالى : (وَفِرْعَوْنَ ،) أي : وفعل بفرعون (ذِي الْأَوْتادِ) واختلف في تسميته بذلك على وجهين :

أحدهما : أنه سمي بذلك عل كثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.

والثاني : أنه كان يتد أربعة أوتاد يشدّ إليها يدي ورجلي من يعذبه وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنّ فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت امرأة وهي امرأة خازنه حزقيل ، وكان مؤمنا كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذا سقط المشط من يدها فقالت : تعس من كفر بالله ، فقالت بنت فرعون : وهل لك إله غير أبي؟ فقال : إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي ، قال : ما يبكيك؟ فقالت : الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السموات والأرض واحد لا شريك له ، فأرسل إليها فسألها عن ذلك ، فقالت : صدقت. فقال لها : ويحك اكفري بإلهك وأقرّي بأني إلهك ، قالت : لا أفعل فمدّها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب ، وقال لها : اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت له : لو عذبتني

٦١٠

سبعين شهرا ما كفرت بالله ، وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها ، وقال لها : اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعة فقالت : لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عزوجل ، فأتى بابنتها فلما اضجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة فانطق الله تعالى لسان ابنتها فتكلمت ، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالا وقالت : يا أمّاه لا تجزعي فإن الله تعالى قد بنى لك بيتا في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله تعالى وكرامته ، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فاسكنها الله تعالى الجنة قال : وبعث في طلب زوجها حزقيل : فلم يقدروا عليه ، فقيل لفرعون : إنه قد زوى في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون خلفه ، فلما رأيا ذلك انصرفا فقال حزقيل : اللهم أنت تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل في عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار ، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن ، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون : وهل معك غيرك؟ قال : نعم فلان فدعى به ، فقال : حق ما يقول هذا؟ قال : لا ما رأيت كما قال شيئا فأعطاه فرعون فأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه. قال : وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت : وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي من فرعون وأنا مسلمة وهو كافر ، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها ، فقالت : يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثه عمدت على الماشطة فقتلتها ، فقال : لعل بك الجنون الذي كان بها؟ قالت : ما بي من جنون ، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فمزق ما عليها وضربها وأرسل على أبويها فدعاهما فقال لهما : ألا تريان أنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها. قالت : أعوذ بالله من ذلك إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له ، فقال أبوها : يا آسية ألست من خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق ، قالت : أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقا فقولا له أن يتوّجني تاجا تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله ، فقال لهما فرعون : أخرجاها عني فمدّها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها بابا إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) [التحريم : ١١] فقبض الله تعالى روحها وأدخلها الجنة. وروي عن أبي هريرة أنّ فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحا واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء ، وقالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ طَغَوْا ،) أي : تجبروا (فِي الْبِلادِ) في محل نصب على الذم ، ويجوز أن يكون مرفوعا على هم الذين طغوا في البلاد ، أو مجرورا على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون فالضمير يرجع لعاد وثمود وفرعون وقيل : يرجع إلى فرعون خاصة.

(فَأَكْثَرُوا ،) أي : طغاتهم (فِيهَا الْفَسادَ ،) أي : بالقتل والكفر والمعاصي قال القفال : وبالجملة فالفساد ضد الصلاح يتناول جميع أقسام البر ، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم فمن عمل بغير أمر الله تعالى وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد.

(فَصَبَّ ،) أي : أنزل إنزالا هو في غاية القوة (عَلَيْهِمْ ،) أي : في الدنيا (رَبُّكَ ،) أي:

٦١١

المحسن إليك بكل جميل (سَوْطَ ،) أي : نوع (عَذابٍ) وقال قتادة : يعني ألوانا من العذاب صبه عليهم ، وقال أهل المعاني هذا على الاستعارة لأن السوط عندهم غاية العذاب. وقال الفراء : هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب ، وأصل ذلك أنّ السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى إلى كلّ عذاب إذا كان فيه غاية العذاب. وقال الزجاج : جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب.

وعن الحسن أنه كان إذا أتى على هذه الآية قال : إنّ الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة : كل شيء عذب الله تعالى به فهو سوط ، وشبه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه.

(إِنَّ رَبَّكَ ،) أي : المحسن إليك بالرسالة (لَبِالْمِرْصادِ ،) أي : يرصد أعمال العباد لا يفوته منها شيء ليجازيهم عليها والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد ، مفعال من رصده كالميقات من وقته ، وهذا مثل لإرصاد العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل له : أين ربك؟ فقال : بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه فقال : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) يا أبا جعفر عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعده بذلك من الجبابرة. قال الزمخشري : فلله دره ، أي : أسد فراس كان بين ثوبيه يدق الظلمة بإنكاره ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

وقوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ) متصل بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) فكأنه قيل : إنّ الله تعالى يريد من الإنسان الطاعة والسعي للعاقبة ، وهو لا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها (إِذا مَا ابْتَلاهُ ،) أي : اختبره بالنعمة (رَبُّهُ ،) أي : الذي أبدعه وأحسن إليه بما يحفظ وجوده ليظهر شكره أو كفره (فَأَكْرَمَهُ ،) أي : جعله عزيزا بين الناس وأعطاه ما يكرمونه به من الجاه والمال (وَنَعَّمَهُ ،) أي : جعله متلذذا مترفها بما وسع الله تعالى عليه.

وقوله تعالى : (فَيَقُولُ ،) أي : سرورا بذلك افتخارا (رَبِّي أَكْرَمَنِ ،) أي : فضلني بما أعطاني خبر المبتدأ الذي هو الإنسان ، ودخول الفاء لما في أمّا من معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير ، كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتداء بالإنعام فيظن أنّ ذلك عن استحقاق فيرتفع به.

وكذا قوله تعالى : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ ،) أي : ضيق (عَلَيْهِ رِزْقَهُ) التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه ، أي : بالفقر ليوازي قسيمه (فَيَقُولُ ،) أي : الإنسان بسبب الضيق (رَبِّي أَهانَنِ) فيهتم لذلك ويضيق به ذرعا ويكون أكبر همه ، وهذا في حق الكافر لقصور نظره وسوء فكره فيرى

٦١٢

الكرامة والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته. وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في عتبة ابن ربيعة. وقيل : أبي بن خلف. فإن قيل : كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقتيره ابتلاء؟ أجيب : بأن كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر ، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع فالحكمة فيهما واحدة ، ونحوه قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥]. فإن قيل : هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه كما قال فأكرمه ونعمه؟ أجيب : بأن البسط إكرام من الله تعالى لعبده بإنعامه عليه متفضلا من غير سابقة ، وأما التقتير فليس بإهانة له لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ولكن تركا للكرامة ، وقد يكون المولى مكرما ومهينا وغير مكرم ولا مهين. وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : أكرمني بالهدية ، ولا تقول أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد إليك. فإن قيل : قد قال تعالى فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته ثم أنكر قوله : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) وذمّه عليه كما أنكر قوله : (أَهانَنِ) وذمه عليه؟ أجيب : بوجهين :

أحدهما : إنما أنكر قوله : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) وذمه عليه لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه وأثبته ، وهو قصده إلى أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراما مستحقا ومستوجبا على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم كقوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨] وإنما أعطاه الله تعالى على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ، ولا سابقة مما لا يعتد الله تعالى إلا به ، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها.

ثانيهما : أن ينساق الإنكار والذم إلى قوله : (رَبِّي أَهانَنِ) يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه ، وإذا لم يتفضل عليه يسمي ترك التفضل هوانا وليس بهوان. قال الزمخشري : ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله تعالى : (فَأَكْرَمَهُ) وقرأ (مَا ابْتَلاهُ) في الموضعين حمزة بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ، وقرأ (رَبِّي أَكْرَمَنِ رَبِّي أَهانَنِ) نافع بإثبات الياء فيهما وصلا لا وقفا ، وقرأ البزي بإثباتها فيهما وقفا ووصلا ، وعن أبي عمرو فيهما في الوصل الإثبات والحذف عنه في الوصل أعدل ، والباقون بالحذف وقفا ووصلا. وقرأ ابن عامر (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) بتشديد الدال والباقون بتخفيفها ، وهما لغتان معناهما ضيق. وقيل : قدّر بمعنى قتر وقدر أعطاه ما يكفيه.

ثم ردّ الله تعالى على من ظن أنّ سعة الرزق إكرام وأنّ الفقر إهانة بقوله تعالى : (كَلَّا ،) أي : ليس الإكرام بالغنى والإهانة بالفقر إنما هما بالإطاعة والمعصية ، وكفار مكة لا ينتبهون لذلك (بَلْ) لهم فعل أشر من هذا القول وهو أنهم (لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) أي : لا يحسنون إليه مع غناهم ، أو لا يعطونه حقه من الميراث. قال مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه فنزلت : (وَلا تَحَاضُّونَ) أي : يحثون حثا عظيما (عَلى طَعامِ ،) أي : إطعام (الْمِسْكِينِ) فيكون اسم مصدر بمعنى الإطعام ، ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : على بذل أو على إعطاء ، وفي إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغنيّ في ماله بقدر الزكاة.

(وَيَأْكُلُونَ) على سبيل التجدد والاستمرار (التُّراثَ ،) أي : الميراث والتاء في التراث بدل من واو لأنه من الوراثة.

٦١٣

(أَكْلاً لَمًّا ،) أي : ذا لم واللمّ الجمع الشديد. يقال : لممت الشيء لما ، أي : جمعته جمعا. قال الحطيئة (١) :

إذا كان لما يتبع الذم ربه

فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا

والجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أنصباءهم ويأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك ، فيلمون في الأكل بين حلاله وحرامه ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال مهلا مهلا من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا واسعا جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه كما يفعل البطالون.

ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي دل عليه في الإنسان فقال تعالى : (وَيُحِبُّونَ ،) أي : على سبيل الاستمرار (الْمالَ ،) أي : هذا النوع من أي شيء كان وأكد بالمصدر والوصف فقال تعالى (حُبًّا جَمًّا ،) أي : كثيرا شديدا مع الحرص والشره ومنع الحقوق.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أخبر تعالى عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عز من قائل : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ،) أي : حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدّة المط لا عوج فيها بوجه (دَكًّا دَكًّا ،) أي : مرّة بعد مرّة ، وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر فلم يبق على ظهرها شيء وينعدم.

(وَجاءَ رَبُّكَ) قال الحسن : أمره وقضاؤه (وَالْمَلَكُ ،) أي : الملائكة. وقوله تعالى : (صَفًّا صَفًّا) حال ، أي : مصطفين ، أي : ذوي صفوف كثيرة فتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس.

(وَجِيءَ ،) أي : بأسهل أمر (يَوْمَئِذٍ ،) أي : إذ وقع ما ذكر (بِجَهَنَّمَ ،) أي : النار التي تتجهم من يصلاها كقوله تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) [النازعات : ٣٦] ويروى «أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه فأخبروا عليا فجاء فاحتضنه من خلفه وقبل ما بين عاتقيه ، ثم قال : يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيرك فتلا عليه الآية. فقال له علي : كيف يجاء بها؟ قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ثم تعرض لي جهنم فتقول : ما لك ولي يا محمد إنّ الله تعالى قد حرم لحمك علي فلا يبقى أحد إلا قال : نفسي نفسي إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : رب أمّتي أمّتي» (٢). وقال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : تقاد جهنم بسبعين ألف زمام كل زمام بيد ألف ملك لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش.

وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ ،) أي : يوم يجاء بجهنم بدل من إذ وجوابها (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ،) أي : يتذكر الكافر ما فرط أو يتعظ لأنه يعلم قبح معاصيه فيندم عليها (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ،) أي : ومن أين له منفعة الذكرى. قال الزمخشري : لا بد من حذف مضاف وإلا فبين (يَتَذَكَّرُ) وبين (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) تناف وتناقض.

تنبيه : أنى خبر مقدّم والذكرى مبتدأ مؤخر وله متعلق بما تعلق به الظرف. وقرأ (وَأَنَّى) حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين ، وقرأ الدوري عن أبي عمرو

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) انظر القرطبي في تفسيره ٢٠ / ٥٥ ـ ٥٦.

٦١٤

بالإمالة بين بين والباقون بالفتح. وقرأ (الذِّكْرى) أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بين بين ، والباقون بالفتح.

(يَقُولُ ،) أي : يقول مع تذكره (يا) للتنبيه (لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ،) أي : في حياتي فاللام بمعنى في ، أو قدّمت الإيمان والخير لحياة لا موت فيها ، أو وقت حياتي في الدنيا.

(فَيَوْمَئِذٍ ،) أي : يوم يقول الإنسان ذلك وقرأ (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) الكسائي بفتح الذال والثاء على البناء للمفعول ، والباقون بكسرهما على البناء للفاعل فأمّا قراءة الكسائي فضمير عذابه ووثاقه للكافر ، والمعنى : لا يعذب أحد مثل تعذيبه ولا يوثق مثل إيثاقه ، وأما على قراءة الباقين فالضمير فيهما لله تعالى أي : لا يكل عذابه إلى غيره ، أو الزبانية المتولين العذاب بأمر الله تعالى.

ولما وصف الله تعالى حال من اطمأن إلى الدنيا وصف حال من اطمأن إلى معرفته وعبوديته وسلم أمره إليه فقال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) قال الحسن ، أي : المؤمنة الموقنة. وقال مجاهد : الراضية بقضاء الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بثواب الله تعالى. وقال ابن كيسان : المخلصة. وقال ابن زيد : التي بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع ، ويقال لها : عند الموت.

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ ،) أي : إلى أمره وإرادته وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : على صاحبك وجسدك. وقال الحسن : إلى ثواب ربك. (راضِيَةً ،) أي : بما أوتيته (مَرْضِيَّةً ،) أي : عند الله تعالى بعملك ، أي : جامعة بين الوصفين لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر ، وهما حالان. قال القفال : هذا وإن كان أمرا في الظاهر فهو خبر في المعنى ، والتقدير : أنّ النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى في القيامة بسبب هذا الأمر.

(فَادْخُلِي فِي ،) أي : في جملة (عِبادِي ،) أي : الصالحين والوافدين عليّ الذين هم أهل الإضافة إليّ ، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي ،) أي : معهم ، هي جنة عدن وهي أعلى الجنان ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيرا في كلامهم كقولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وقال سعيد بن زيد : «قرأ رجل عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية فقال أبو بكر : ما أحسن هذا يا رسول الله فقال له : إنّ الملك سيقوله لك يا أبا بكر» (١). وقال سعيد بن جبير : مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط فدخل نعشه ثمّ لم ير خارجا منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) الآية. وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة وقيل : في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال : اللهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك ، فحوّل الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله. وقيل : نزلت في حمزة ابن عبد المطلب. قال الزمخشري : والظاهر العموم. وقول البيضاوي تبعا له إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة» (٢) حديث موضوع.

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٥٦.

٦١٥

سورة البلد

مكية ، وهي عشرون آية واثنان وثمانون كلمة وثلاثمائة وعشرون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك الذي لا راد لأمره (الرَّحْمنِ) الذي عم سائر خلقه بفضله (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل طاعته بجنته.

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

واختلف في لا في قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ) فقال الأخفش : إنها مزيدة ، أي : أقسم كما تقدّم في قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة : ١] وقد أقسم به سبحانه وتعالى. قال الشاعر (١):

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة

وكاد صميم القلب لا يتقطع

أي : يتقطع ، ودخل حرف لا صلة ، وكقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] وقد قال تعالى في ص : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] وأجاز الأخفش أيضا أن تكون بمعنى إلا. وقيل : هي نفي صحيح ، والمعنى : لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه ، حكاه مكي. وأجمعوا على أن المراد بالبلد في قوله تعالى : (بِهذَا الْبَلَدِ ،) أي : الحرام وهو مكة ، وفضلها معروف فإنه تعالى جعلها حرما آمنا. وقال تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب. فقال تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤] وأمر الناس بحج البيت فقال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ) [آل عمران : ٩٧] وقال تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥] وقال تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) [الحج : و ٢٦] وقال تعالى : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج : ٢٧] وشرف مقام إبراهيم عليه‌السلام بقوله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص ٣٠٢ ، ورصف المباني ص ٢٧٤.

٦١٦

١٢٥] وحرم صيده وجعل البيت المعمور بإزائه ، ودحيت الأرض من تحته ، فهذه الفضائل وأكثر منها إنما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها.

(وَأَنْتَ ،) أي : يا أشرف الخلق (حِلٌّ ،) أي : حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه (بِهذَا الْبَلَدِ) بأن يحل لك فتقاتل فيه.

وقد أنجز الله له هذا الوعد يوم الفتح وأحلها له ، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرم ما شاء قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرم دار أبي سفيان ثم قال : «إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشدها. فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلا الإذخر» (١). ونظير (وَأَنْتَ حِلٌ) في معنى الاستقبال قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ومثله واسع في كلام العرب ، تقول لمن تعده الإكرام والحباء لأنت مكرم محبوّ ، وهو في كلام الله تعالى واسع لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال وأنّ تفسيره بالحال محال أنّ السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها ، فما بال الفتح والجملة اعتراض بين المقسم به وما عطف عليه.

واختلف في قوله تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) فقال الزمخشري : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ولده أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه ، وحرم أبيه إبراهيم ، ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. وقال البغويّ : هما آدم وذريّته ، وقيل : كلّ والد وولده. فإن قيل : هلا قيل : ومن ولد؟ أجيب : بأنّ فيه ما في قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦] أي : بأي شيء وضعت يعني ، أي : بأي شيء وضعت يعني موضوعا عجيب الشأن ، أو أن ما بمعنى من. والذي عليه أكثر المفسرين هما آدم وذريّته ؛ لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم ، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه ، وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها. ولقد قال الله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] وقيل : هما آدم والصالحون من ذريته ، وأما الطالحون فكأنهم بهائم كما قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الفرقان : ٤٤](صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة : ١٨].

والمقسم عليه قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ،) أي : الجنس (فِي كَبَدٍ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أي : شدّة ونصب ، وعنه أيضا في شدّة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه وسائر أحواله. وعن عكرمة منتصبا في بطن أمّه ، والكبد الاستواء والاستقامة ، فهذا امتنان

__________________

(١) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه البخاري في الجنائز باب ٧٦ ، والعلم باب ٣٩ ، والصيد باب ٩ ، ١٠ ، والبيوع باب ٢٨ ، واللقطة باب ٧ ، والجزية باب ٢٢ ، والمغازي باب ٥٣ ، والديات باب ٨ ، ومسلم في الحج حديث ٤٤٥ ، ٤٤٧ ، ٤٤٨ ، وأبو داود في المناسك باب ٨٩ ، والنسائي في الحج باب ١١٠ ، ١٢٠ ، وابن ماجه في المناسك باب ١٠٣ وأحمد في المسند ١ / ٢٥٣ ، ٢٥٩ ، ٣١٦ ، ٣٤٨ ، ٢ / ٢٣٨.

٦١٧

عليه في الحقيقة ، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطنها أمّها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم فإنه منتصب انتصابا.

وقال ابن كيسان : منتصبا في بطن أمه فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال يمان : لم يخلق الله تعالى خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق.

قال بعض العلماء أوّل ما يكابد قطع سرته ثم إذا قمط قماطا وشدّ رباطا يكابد الضيق والتعب ، ثم يكابد الارتضاع ، ولو فاته ضاع ، ثم يكابد نبت أسنانه ، ثم يكابد الفطام الذي هو أشدّ من اللطام ، ثم يكابد الختان والأوجاع ، ثم المعلم وصولته ، والمؤدب وسياسته ، والأستاذ وهيبته ، ثم يكابد شغل التزويج ، وشغل الأولاد والخدم ، وشغل المسكن والجيران ، ثم الكبر والهرم ، وضعف الركب والقدم ، في مصائب يكثر تعدادها من صداع الرأس ووجع الأضراس ، ورمد العين ، وهمّ الدين ، ووجع السنّ ، وألم الأذن ، ويكابد محنا في المال والنفس من الضرب والحبس ، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدّة ، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت ، ثم بعده سؤال الملك وضغطة القبر وظلمته ، ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقرّ به القرار ، إما في الجنة وإما في النار ، فدل هذا على أنّ له خالقا دبره وقضى عليه بهذه الأحوال ، ولو كان الأمر إليه ما اختار هذه الشدائد فليتمثل أمر خالقه. وقال ابن زيد : المراد بالإنسان هنا آدم عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (فِي كَبَدٍ ،) أي : في وسط السماء. وقال مقاتل : في كبد ، أي : في قوّة نزلت في أبي الأشدين ، واسمه أسيد بن كلدة بن جمح ، وكان شديدا قويا ، يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فيجذبه عشرة فيتمزق الأديم من تحت قدميه ، ولا تزول قدماه ويبقى موضع قدميه ، وكان من أعداء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه نزل.

(أَيَحْسَبُ ،) أي : أيظنّ الإنسان قويّ قريش ، وهو أبو الأشدين بقوّته ، (أَنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ، أي : أنه (لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ ،) أي : خاصة (أَحَدٌ ،) أي : من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه ، والله تعالى قادر عليه في كل وقت. وقيل : نزلت في المغيرة بن الوليد المخزومي.

(يَقُولُ ،) أي : يفتخر بقوّته وشدّته (أَهْلَكْتُ ،) أي : على عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مالاً لُبَداً ،) أي : كثيرا بعضه على بعض.

(أَيَحْسَبُ ،) أي : هذا الإنسان العنيد بقلة عقله (أَنْ ،) أي : أنه (لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) قال سعيد بن جبير : ، أي : أظنّ أن الله تعالى لم يره ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وقال الكلبي : إنه كان كاذبا في قوله أنه أنفقه ولم ينفق جميع ما قال ، والمعنى : أيظنّ أن الله تعالى لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته.

وقرأ (أَيَحْسَبُ) في الموضعين ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها.

ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر بقوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ ،) أي : بما لنا من القدرة التامّة (لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما المرئيات وإلا تعطل عليه أكثر ما يريد ، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئا ، وقدرنا البياض والسواد والشهلة والزرقة وغير ذلك على ما ترون ، وأودعناهما البصر على كيفية يعجز الخلق عن إدراكهما.

٦١٨

(وَلِساناً) يترجم به عن ضمائره (وَشَفَتَيْنِ) يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك. قال قتادة : نعم الله تعالى عليه متظاهرة فيقررّه بها كي يشكره. قال البغوي : وجاء في الحديث أن الله تعالى يقول : «يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ، وإن نازعك فرجك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق» (١).

(وَهَدَيْناهُ ،) أي : آتيناه من العقل (النَّجْدَيْنِ) قال أكثر المفسرين : بيّنا له طريق الخير والشر والهدى والضلال والحق والباطل كقوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] وصار بما جعلناه له من ذلك سميعا بصيرا عالما ، فصار موضعا للتكليف. روى الطبراني أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإنّ ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى ، يا أيها الناس إنما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ فلم جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» (٢). قال المنذري : النجد هنا الطريق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بيّنا له الثديين ، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك ، وأصله المكان المرتفع.

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ،) أي : فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين والأيتام بل غمط النعم وكفر بالمنعم.

والمعنى : أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضي النافع عند الله تعالى ، لا أن يهلك مالا لبدا في الرياء والفخر وعداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون على هذا الوجه (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) [آل عمران : ١١٧] الآية. وقيل : معناه لم يقتحمها ولا جاوزها والاقتحام الدخول في الأمر الشديد ، وذكر العقبة مثل ضربة الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البرّ فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول الله تعالى لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام ، وهذا معنى قول قتادة وقيل : إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة ، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها وروي عن ابن عمر أنّ هذه العقبة جبل في جهنم ، وقال الحسن : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله تعالى ومجاهدة النفس. وقال مجاهد : هي الصراط يضرب على متن جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة صعودا وهبوطا واستواء ، وإنّ بجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان ، فناج مسلم وناج مخدوش ، ومكردس في النار منكوس ، وفي الناس من يمرّ كالريح العاصف ، ومنهم من يمرّ كالرجل يعدو ، ومنهم من يمرّ كالرجل يسير ، ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم الزالون ، ومنهم من يكردس في النار. وقال ابن زيد : فهلا سلك طريق النجاة.

وقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ،) أي : أعلمك أيها السامع لكلامنا الراغب فيما عندنا (مَا الْعَقَبَةُ) تعظيم لشأنها والجملة اعتراض قال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه (وَما أَدْراكَ) فإنه أخبر به ، وما كان قال : (وَما يُدْرِيكَ) فإنه لم يخبر به.

__________________

(١) انظر البغوي في تفسيره ٥ / ٢٥٥.

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٤٤٥ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٥٦ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٢ / ٤٩ ، ٤ / ١٦٩.

٦١٩

ثم بين سبب جوازها بقوله تعالى : (فَكُّ ،) أي : الإنسان (رَقَبَةٍ ،) أي : خلصها من الرق وذلك بأن يعتق رقبة في ملكه أو يعطي مكاتبا ما يصرفه في فك رقبته. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه» (١). قال الزمخشري : وفي الحديث : «أنّ رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دلني على عمل يدخلني الجنة. قال : تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال : أو ليسا سواء؟ قال : لا إعتاقها أن تنفرد بعتقها ، وفكها أن تعين في تخليصها من قود أو غرم ، والعتق والصدقة من أفضل الأعمال» (٢).

وعن أبي حنيفة أن العتق أفضل من الصدقة ، وعن صاحبيه : الصدقة أفضل. قال الزمخشري : والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقديم العتق. وقال عكرمة : يعني فك رقبته من الذنوب. وقال الماوردي : ويحتمل أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات ، ولا يمنع الخبر من هذا التأويل وهو أشبه بالصواب.

(أَوْ إِطْعامٌ ،) أي : دفع الإطعام لشيء له قابلية ذلك. (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ،) أي : مجاعة ، والسغب : الجوع.

(يَتِيماً ،) أي : إنسانا صغيرا لا أب له (ذا مَقْرَبَةٍ ،) أي : ذا قرابة لك بأن كان بينك وبينه قرابة ، يقال : فلان ذو قرابتي ، وذو مقربتي.

(أَوْ مِسْكِيناً) وهو من له مال أو كسب يقع موقعا من كفايته ، ولا يكفيه. (ذا مَتْرَبَةٍ ،) أي : لصوق بالتراب لفقره. يقال : ترب إذا افتقر ، ومعناه : التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى ، أي : صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قيل : أثرى. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (ذا مَتْرَبَةٍ :) «الذي مأواه المزابل» قال ابن عباس رضي الله عنهما : «هو المطروح على الطرق الذي لا بيت له». وقال مجاهد : وهو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة : أنه ذو العيال. واحتج بهذه الآية على أنّ المسكين يملك شيئا لأنه لو كان لا يملك شيئا لكان تقييده بقوله تعالى : (ذا مَتْرَبَةٍ) تكريرا. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة برفع الكاف وجرّ رقبة وكسر همزة إطعام وفتح العين وبعدها ألف ورفع الميم منوّنة ، والباقون فك بنصب الكاف رقبة بالنصب أطعم بفتح الهمزة والعين والميم بغير تنوين ، ولا ألف بين العين والميم.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) إلى آخره ذكر لا مرّة واحدة. قال الفرّاء والزجاج : والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد لا كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١]؟.

أجيب : بأنه إنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) قائما مقام التكرير فكأنه قال : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ولا آمن. وقال الزمخشري : هي متكرّرة في المعنى : لأنّ معنى فلا اقتحم العقبة فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا ، ألا ترى أنه

__________________

(١) أخرجه البخاري في الكفارات حديث ٦٧١٥ ، ومسلم في العتق حديث ١٥٠٩.

(٢) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٦٩ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٨١ ، والبخاري في الأدب المفرد ٦٩ ، والبيهقي في السنن الكبرى ١٠ / ٢٧١ ، والبغوي في تفسيره ٥ / ٢٥٧.

٦٢٠